إتفاقية الحبوب- بارقة أمل أم سلاح جيوسياسي في الحرب الروسية الأوكرانية؟

شهدت إسطنبول الأسبوع الفائت محط أنظار المجتمع الدولي، حيث اضطلعت تركيا إلى جانب الأمم المتحدة بدور الوسيط في إبرام اتفاق تاريخي بين روسيا وأوكرانيا. يهدف هذا الاتفاق المحوري إلى تذليل العقبات التي تعترض استئناف تدفق الصادرات الأوكرانية من القمح والحبوب إلى مختلف أنحاء العالم عبر مياه البحر الأسود. ويُعد هذا الاتفاق الأول من نوعه الذي يتم التوصل إليه بعد مضيّ ستة أشهر عصيبة على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، مما يجعله يمثل خطوة بالغة الأهمية نحو التخفيف من الآثار السلبية لهذه الحرب على الساحة العالمية.
فقد تعرقلت الصادرات الأوكرانية من القمح والحبوب عبر البحر الأسود نتيجة للهيمنة الروسية على الموانئ الأوكرانية المطِلّة على بحر آزوف، وما بدا وكأنه حصار محكم فرضته روسيا على الموانئ الأخرى الواقعة على امتداد ساحل البحر الأسود، بالإضافة إلى قيام أوكرانيا نفسها بزرع ألغام بحرية بهدف حماية مدينة أوديسا الجنوبية من أي هجوم برمائي روسي محتمل. وقبل اندلاع شرارة الحرب، كان العالم يعاني بالفعل من وطأة التضخم المتزايد، وذلك جرّاء التداعيات الناجمة عن أزمة كورونا التي عصفت بالاقتصاد العالمي. لكن تراجع الصادرات الأوكرانية من القمح والحبوب فاقم المخاوف من حدوث أزمة غذاء عالمية وخيمة. ومن المؤكد أن هذا الاتفاق من شأنه أن يبعث شيئاً من الارتياح في نفوس العالم أجمع، ولكن يبقى التوقيع على الأوراق شيئاً، والتنفيذ الفعلي والالتزام ببنود الاتفاق أمراً آخر تماماً.
فبعد مضي ساعات قليلة على إبرام الاتفاق، شنّ الجيش الروسي هجوماً صاروخياً على ميناء أوديسا الحيوي، مدّعياً أن هذا الهجوم استهدف هدفاً عسكرياً بحتاً، الأمر الذي يُشير بوضوح إلى هشاشة هذا الاتفاق وعدم ضمان استمراريته. تجدر الإشارة إلى أن تركيا والأمم المتحدة هما الجهتان الراعيتان لهذا الاتفاق، ولكنهما تفتقدان إلى الآليات الفعالة اللازمة لضمان تنفيذه على أرض الواقع. سيكون بمقدور مركز المراقبة، الذي سيقام في مدينة إسطنبول، التحقق من سلامة شحنات تصدير الحبوب والتأكد من خلوها التام من الأسلحة، إلا أنه لا يملك الصلاحية اللازمة لإجبار أي من روسيا أو أوكرانيا على الالتزام بوقف إطلاق النار في المنطقة البحرية. هذه المعضلة الكبيرة لا يمكن التعامل معها بفاعلية من دون تحويل التزامات الطرفين، وخاصة روسيا، إلى التزام جاد وواضح بوقف إطلاق النار بشكل كامل. ولكن يبدو تحقيق ذلك أمراً صعباً للغاية، لأن مثل هذا الالتزام سيقيد قدرة موسكو على استخدام أسطولها البحري في البحر الأسود في العمليات الحربية. علاوة على ذلك، فإن صمود هذا الاتفاق واستمراره يعتمد في المقام الأول على نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما إذا كان سيتخلى عن أحد الأهداف الرئيسية للحملة العسكرية، وهو إحكام الخناق على أوكرانيا وعزلها تماماً عن سواحلها الجنوبية.
يثير هنا سؤال هام: لماذا يوافق الرئيس بوتين على اتفاقية من شأنها أن تقيد آلته الحربية؟ ولماذا يمنح كييف شريان حياة اقتصادياً في الوقت الذي تكافح فيه قواته من أجل التقدم في ساحة المعركة؟ إن ما يمكن أن يفسر هذا التحول المفاجئ هو الضغوط الهائلة التي تتعرض لها روسيا من جانب الدول الصديقة في جنوب الكرة الأرضية، والتي تضررت بشدة من الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية نتيجة للحرب. إضافة إلى ذلك، تحتاج روسيا بشدة إلى تشجيع شركات الشحن وشركات التأمين على نقل الصادرات الروسية إلى مختلف أنحاء العالم.
إذا استمرت الحرب لفترة أطول، كما هو مرجح للأسف، وظلت الإمدادات القادمة من روسيا وأوكرانيا محدودة، فقد يقع مئات الملايين من البشر في براثن الفقر المدقع. إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في تعميق المعاناة الاقتصادية لدول العالم الثالث، بل يمكن أن يؤدي أيضاً إلى اضطرابات سياسية واسعة النطاق.
تسعى الاتفاقية الثانية التي وقعتها روسيا مع كل من تركيا والأمم المتحدة إلى إلغاء القيود المفروضة على تصدير المواد الغذائية والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، وذلك في مقابل موافقة الرئيس بوتين على تمرير صفقة الحبوب. قد يكون الرئيس الروسي قد خسر بعض أوراق الضغط التي كان يستخدمها في مواجهة أوكرانيا والغرب، ولكنه عندما يتعلق الأمر بصراع الجغرافيا الاقتصادية مع الغرب، فإنه لا يزال يمتلك الكثير من الأدوات المؤثرة، وعلى رأسها سلاح الطاقة.
إن أحد الأوجه المزعجة للعالم في هذا الصراع الدائر هو استخدام إمدادات الغذاء العالمية كسلاح فعال. فموسكو تتعرض لعقوبات اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ وتسعى جاهدة لاستثمار كل وسيلة متاحة من أجل فك عزلتها الدولية، بينما يستخدم الغربيون العقوبات الاقتصادية بهدف إجبار الرئيس بوتين على الرضوخ لمطالبهم. ولكن، ما هي النتيجة المترتبة على ذلك؟
إن العالم بأسره يعاني بشدة من صراع لا ناقة له فيه ولا جمل. وفي حين أن روسيا والدول الغربية تمتلك إمكانات اقتصادية ضخمة تمكنها من التعايش مع سنوات طويلة من الصراع، إلا أن دول العالم الثالث على وجه الخصوص لا تمتلك مثل هذه الإمكانات. فرغيف الخبز، الذي يشكل أساساً للاستقرار المجتمعي في الكثير من هذه الدول، بات مهدداً بفعل هذا الصراع المستمر. لقد أدت التكلفة المرتفعة للأغذية الأساسية بالفعل إلى زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين لا يستطيعون ضمان الحصول على ما يكفي من الطعام، حيث ارتفع العدد من أكثر من 440 مليون شخص إلى ما يقارب 1.5 مليار شخص، وذلك بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
إذا استمرت الحرب لفترة أطول، كما هو مرجح، وظلت الإمدادات القادمة من روسيا وأوكرانيا محدودة، فقد يقع مئات الملايين من الأشخاص في براثن الفقر المدقع. إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في تعميق المعاناة الاقتصادية لدول العالم الثالث، بل يمكن أن يؤدي أيضاً إلى اضطرابات سياسية واسعة النطاق. إن المسألة الأكثر أهمية في صفقة الحبوب هي ما إذا كانت ستؤدي في نهاية المطاف إلى إرساء أرضية صلبة من الثقة المتبادلة بين موسكو وكييف، والبناء عليها فيما بعد من أجل تخفيف حدة الصراع المستمر ومنح فرصة حقيقية للسلام. فالاقتصاد الأوكراني يعاني بشدة جراء القيود المفروضة على حركة صادراته، وتأمل كييف في أن تؤدي اتفاقية إسطنبول إلى فرض قيود صارمة على العمليات العسكرية الروسية في البحر الأسود مستقبلاً، وكذلك حماية مدينة أوديسا الاستراتيجية. ولكن ذلك لا يبدو ممكناً على الإطلاق، فقد تحدث وزير الخارجية الروسي صراحة عن أن العملية العسكرية لم تعد محصورة بنطاق جغرافي محدد، في إشارة واضحة إلى أن أوديسا قد تكون هدفاً محتملاً في المستقبل القريب.
عندما انسحبت القوات الروسية من شمال أوكرانيا بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب، ساد اعتقاد خاطئ بأن موسكو قد خففت من قائمة أهدافها الحربية بفعل الصعوبات الكبيرة التي واجهتها على أرض المعركة، مما أحيا الآمال في ذلك الوقت بإمكانية إحلال السلام. ولكنه سرعان ما اتضح أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. لقد مضى الآن ما يقارب نصف عام على اندلاع الحرب ولا توجد أي مؤشرات تدل على أن موسكو مستعدة للتراجع والقبول بتسوية سياسية لا تكون فيها الطرف الفائز الأكبر. كما أن التداعيات الناجمة عن هذه الحرب تتعمق بشكل أكبر في مختلف جوانب السياسات العالمية، بدءاً من قضية الأمن الغذائي وصولاً إلى التحولات الجذرية في خريطة الطاقة العالمية والمتغيرات الجيوسياسية التي طرأت على العلاقات الدولية منذ ذلك الحين. وفي ضوء هذه التطورات المتلاحقة، فإن فرص نجاح اتفاقية إسطنبول تبدو ضعيفة للغاية. وعلى النقيض من ذلك، فإن صمود هذه الاتفاقية واستمرارها يمكن أن يساعد في بناء بيئة دبلوماسية جديدة في هذا الصراع الطويل.
أخيراً، ألقى هذا الصراع الدائر بظلاله القاتمة على مختلف دول العالم، ولكنه في المقابل خلق فرصاً واعدة لبعض الدول الأخرى. وتعد تركيا إحدى الدول القليلة التي تلعب دوراً حيوياً في المساعي الرامية إلى إحلال السلام، وقد استطاعت أن تكرس نفسها كوسيط مقبول من قبل الطرفين المتحاربين. ولكن دبلوماسيتها النشطة الحالية تكتسب أهمية أكبر كونها تتعامل مع قضية جوهرية تمس الأمن الغذائي العالمي بشكل مباشر. وبقدر ما أن هذا النهج يمثل مصلحة عليا لتركيا من أجل الحد من التداعيات السلبية للحرب عليها، فإنه أثبت أيضاً أنه يصب في مصلحة العالم بأسره. ويكاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يكون الزعيم الوحيد الذي يستطيع التحدث في أي وقت مع كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. كما سبق لأنقرة أن لعبت، ولا تزال تلعب، دوراً كبيراً في دفع المسار التفاوضي بين موسكو وكييف. وفي ظل هذه الاضطرابات الجيوسياسية العالمية والاستقطاب الدولي الواسع، تسعى أنقرة بقيادة الرئيس أردوغان إلى تقديم نموذج مختلف يجمع ما بين المساهمات الفعالة في صنع السياسات الإقليمية والدولية والدفع قدماً باتجاه تحقيق الاستقرار المنشود. وسيكون بمقدور الرئيس أردوغان أن يطور دبلوماسيته المتميزة في هذا الصراع الراهن إذا ما حظيت جهوده بدعم أكبر من قبل المجتمع الدولي.